فصل: (مسألة: هيئة سكنى الدار)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[فرع: عدم الإضرار بالمؤجر شرط في استعماله]

قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وإن اختلفا في الرحلة.. رحل لا مكبوبًا ولا مستلقيًا). واختلف أصحابنا في صورته:
فقال أبو إسحاق: (المكبوب): أن يضيق قيد المحمل من مؤخر البعير، ويوسع قيد المحمل من مقدم البعير، و(المستلقي): أن يوسع مؤخره، ويضيق مقدمه. فالمكبوب أسهل على الجمل، والمستلقي أسهل على الراكب.
ومنهم من قال: (المكبوب): أن يضيق قيد المحمل من المقدم والمؤخر، و(المستلقي): أن يوسعهما.
وأي التأويلين كان.. فإن لا يجاب الجمال ولا الراكب إليه، بل يفعل ما جرت العادة به، مما لا يضر بالمركوب ولا بالراكب.
قال ابن الصباغ: وكذلك: إذا اختلفا في جلوس الراكب.. رجع فيه إلى العادة. ومن طلب منهما مفارقة القافلة، إما بالحث، أو بالتقصير.. لم يلتفت إليه إلا برضا الآخر بذلك.

.[فرع: ما يجب في إكراء دار للسكنى]

وإن أكراه دارًا للسكنى.. فعلى المكري تسليم الدار فارغة الحش من الأذى؛ لأنه من مؤن التمكين، فإن امتلأ في يد المكتري.. فعلى من تجب مؤنة إخراجه؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه على المكري؛ لأن التمكين من الانتفاع يتعلق بذلك.
والثاني: أنه على المكتري؛ لأنه هو الذي شغله بذلك.
قال المسعودي [في " الإبانة: ق \ 335] وعلى هذين الوجهين إخراج رماد الحمام المستأجر، وتنقية الحوض الذي يخرج إليه الغسالة.
وعلى المكري تسوية الدعامة في الدار، وإصلاح المغلاق، وتطيين السطح، وإن تكسر شيء من الخشب.. فعليه إبداله؛ لأن المكتري لا يمكن من الانتفاع إلا بذلك.
قال المسعودي [في "الإبانة" ق \ 335] وأما نصب باب جديد، أو إحداث ميزاب، فينظر فيه: فإن لم يمكن الانتفاع بالدار حسب ما كان يمكن وقت العقد إلا بنصب ذلك.. فعلى المكري ذلك، وإلا.. فلا.

.[مسألة: نفقة المركوب على المكري]

وعلى المكري علف الظهر وسقيه؛ لأن التمكين من الانتفاع عليه، ولا يمكن الانتفاع به إلا بذلك. فإن هرب الجمال.. فلا يخلو: إما أن يهرب بجماله، أو يهرب بنفسه ويترك جماله.
فإن هرب بجماله.. نظرت:
فإن كانت الإجارة على ظهر في الذمة.. لم تنفسخ الإجارة بهرب الجمال؛ لأن المعقود عليه في الذمة لم يتلف. فإن رفع المستأجر الأمر إلى الحاكم، وأثبت الإجارة عنده.. فإن الحاكم ينظر:
فإن وجد للمكري مالًا استأجر منه للمستأجر ظهرًا؛ لأن المنفعة في ذمته، فإذا تعذرت من جهته.. قام الحاكم مقامه، كما لو كان في ذمته لغيره دين، فهرب.. فإن الحاكم يقضي الدين من ماله.
فإن لم يجد له مالًا.. اقترض عليه من بيت المال، أو من رجل من الرعية ما يكتري به الظهر، وإن لم يكن في بيت المال ما يقرضه، ولم يجد من يقرضه من الرعية، فإن اختار المكتري أن يقرضه، فقبض الحاكم المال منه، واكترى له به، أو فوض ذلك إلى أمين.. جاز، كما لو اقترض له من غيره، وإن أمر الحاكم المكتري ليكتري لنفسه من ماله، ويكون ذلك قرضًا على المكري.. قال الشيخ أبو حامد: فإن الشافعي قال في " البويطي ": (لا يجوز ذلك؛ لأنه لا يجوز أن يكون وكيلًا لغيره في القبض من نفسه). وحكى المسعودي [في "الإبانة" ق \ 333] في ذلك وجهين.
فإن تعذر عليه الاقتراض.. فالمكتري بالخيار: بين أن يقيم على الإجارة إلى أن يجد المكري، فيطالبه بما عليه، وبين أن يفسخ الإجارة، وتكون الأجرة دينًا له في ذمة المكري؛ لأن المعقود عليه تعذر، فثبت له الخيار، كما لو أفلس المشتري.
وإن كانت الإجارة على أجمال بأعيانها.. لم يكن للحاكم أن يكتري له غيرها؛ لأن الإجارة وقعت على عينها، فلا يجوز إبدالها بغيرها، كما لو باعه عينًا، فهرب بها، ويكون المكتري هاهنا بالخيار: بين أن يفسخ الإجارة؛ لأنه استحق المنفعة معجلة وقد تأخرت، فثبت له الخيار، وبين أن يصبر إلى أن يجد الجمال، فيستوفي حقه.
فإن اختار فسخ الإجارة.. نظرت:
فإن كان قد استوفى بعض المنفعة.. انفسخت الإجارة فيما بقي، وهل تنفسخ فيما مضى؟ فيه طريقان، كما قلنا فيمن اشترى عبدين، فتلف أحدهما قبل القبض.
فإن قلنا: تنفسخ في الجميع.. رجع بجميع المسمى إن كان قد دفعه، ووجبت عليه أجرة المثل لما قد استوفاه، فيقاصه الحاكم.
وإن قلنا: تنفسخ في الباقي.. كان له الخيار فيما مضى، فإن اختار الفسخ.. فهو كما لو قلنا: تنفسخ في الجميع، وإن اختار الإمضاء.. رجع بقسط ما بقي من المسمى.
وإن كان لم يستوف شيئًا من المنفعة.. انفسخ العقد في الجميع. فإن كان قد سلم المسمى، وأقام البينة على ذلك عند الحاكم.. نظر الحاكم:
فإن وجد للمكري مالًا.. دفع إلى المكتري ما سلمه من مال المكري.
وإن لم يجد له مالا.. كان ذلك دينا في ذمة المكري للمكتري إلى أن يجده، ولا يقترضه الحاكم هاهنا للمكتري؛ لأن الدين في ذمة المكتري، فإذا اقترض له من غيره.. كان ذلك دينًا في ذمته، فلا يحصل في ذلك فائدة، ويفارق المنفعة؛ لأنها من غير جنس المال المقترض، ولأن المنفعة تفوت بتأخيرها.
وإن لم يختر المكتري الفسخ.. نظرت:
فإن كانت الإجارة على مدة، بأن اكترى منه الجمال ليركبها شهرًا.. فإنه كلما مضى جزء من الشهر.. انفسخ من الإجارة بقدره، فإن مضى الشهر قبل أن يرجع الجمال.. انفسخت الإجارة، وكان الحكم فيها كما لو فسخ المستأجر.
وإن كانت الإجارة على عمل، مثل: أن يستأجر الجمال ليركبها إلى موضع كذا.. لم تنفسخ الإجارة، ولكن متى وجد المستأجر الجمال التي اكتراها.. استوفى منفعته منها.
فأما إذا هرب الجمال وترك الجمال في يد المكتري.. فإن الجمال قد هرب من حقين:
أحدهما: النفقة على الجمال بالعلف والسقي.
والثاني: القيام رفع الأحمال وحطها.
فإن رفع المستأجر الأمر إلى الحاكم.. نظر الحاكم:
فإن وجد للجمال مالًا.. أخذ منه ما يحتاج إليه لنفقة الجمال، وللقيام برفع الحمال وحطها، وسوق الظهر وقوده.
إن لم يجد له مالًا غير الجمال، فإن كان فيها فضل على ما يحتاج إليه المكتري.. باع الحاكم منها بقدر ما يحتاج إليه لذلك، وإن لم يكن فيها فضل.. اقترض عليه الحاكم من بيت المال إن كان فيه فضل، أو من رجل من الرعية.
وإن أراد أن يقترض من المكتري.. نظرت:
فإن قبض منه المال ودفعه إليه، أو إلى رجل من أهل القافلة لينفقه على الجمال، أو استأجر من يرفع الأحمال ويحطها.. جاز ذلك.
وإن أمر الحاكم المكتري لينفق من ماله على ذلك قرضًا على الجمال.. فهل يصح؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يصح؛ لأن ذلك يؤدي إلى أن يكون مقبول القول فيما يستحقه على غيره.
والثاني: يصح، وهو الأصح؛ لأنه موضع ضرورة؛ لأن إقامة أمين في ذلك يشق ويتعذر؛ لأنه يحتاج إلى الخروج معها وإلى الإنفاق في الطريق، فجاز له ذلك؛ لأن الحاكم قد لا يجد غيره.
ولا بد للجمال من علف وسقي.
فإذا قلنا بهذا: واختلف الجمال والمكتري في قدر ما أنفق عليها، فإن كان الحاكم قد قدر له ما ينفق عليها كل يوم، فادعى: أنه أنفق ذلك، وخالفه المكري.. فالقول قول المكتري فيه؛ لأن الحاكم قد قدر له ذلك، وهو أمين.
وقوله: إنه أنفق ذلك، مقبول، وإن كان الحاكم لم يقدر له ما ينفق كل يوم، وإنما أذن له في الإنفاق، فإن كان ما يدعيه النفقة بالمعروف.. فالقول قول المكتري مع يمينه: أنه أنفق ذلك. وإن ادعى أكثر من ذلك.. لم يقبل قوله في الزيادة؛ لأنه متطوع بها.
فإذا بلغ المكتري إلى الموضع الذي اكترى إليه.. فقد استوفى حقه، ويبيع الحاكم شيئًا من الجمال بقدر دين المكتري، ويقضيه إياه، فإن رأى الحاكم أن يبقي باقيها إلى أن يعود صاحبها، ويبيع منها شيئًا لينفق عليها.. جاز، وإن رأى أن يبيع باقيها، ويحفظ ثمنها على صاحبها.. جاز.
وإن أنفق المكتري بغير إذن الحاكم، فإن قدر على الحاكم ولم يستأذنه.. لم يرجع بشيء؛ لأنه متطوع، وإن لم يقدر على الحاكم، فإن أنفق من غير إشهاد، ولا شرط الرجوع.. لم يرجع بشيء؛ لأنه متطوع، وإن أشهد شاهدين: أنه أنفق ليرجع به على الجمال.. ففيه وجهان:
أحدهما: يرجع؛ لأنه موضع ضرورة.
والثاني: لا يرجع؛ لأنه لم ينفق بإذن من له الإذن، فلا يرجع به.
وإن لم يجد من يشهده.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يرجع؛ لما ذكرناه إذا أشهد مع وجود الحاكم.
والثاني: يرجع؛ لأن الجمال قد علم أنه لا بد للجمال من القيام بالعلف والسقي. هذا نقل البغداديين.
وقال المسعودي [في الإبانة " ق \ 333] إذا لم يجد قاضيًا، فأنفق.. فهل يرجع به؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يرجع به.
والثاني: لا يرجع به.
والثالث: إن أشهد.. رجع به، وإن لم يشهد.. لم يرجع به.

.[مسألة: استيفاء مدة المأجور]

إذا استأجر عينًا على عمل، فاستوفاه، أو استأجرها مدة، فمضت تلك المدة وهي في يده.. فهل يلزم المكتري ردها؟ فيه وجهان:
أحدهما: يلزمه، وهو ظاهر النص، وبه قال مالك؛ لأنه قبضها لاستيفاء ما وجب له، فإذا انقضت الإجارة.. كان ممسكًا لها بغير إذن مالكها، فلزمه ردها، كالعارية، وكما لو أطارت الريح ثوبًا إلى بيته، وعرف مالكه.. فإن عليه رده إليه.
فعلى هذا: إن كان لردها مؤنة.. لزمته تلك المؤنة. فإن تمكن من ردها، فلم يردها حتى مضت مدة، ثم تلفت.. لزمه أجرة المثل لتلك المدة، ولزمه قيمتها.
والوجه الثاني: لا يلزمه ردها، وبه قال أبو حنيفة؛ لأنها أمانة في يده، فلا يجب عليه ردها إلا بالمطالبة، كالوديعة، وتقدير الإجارة بالمدة لا يخرجها عن أن تكون أمانة بعد المدة، كما لو قال: أودعتك هذا شهرًا.. فإنه في الشهر بعده أمانة.
فعلى هذا: إذا مضت مدة بعد استيفاء منفعته.. لم يلزمه لها أجرة، إلا إن استوفى منفعته منها، فتكون مؤنة الرد على المؤاجر.
فإن استأجر عينًا، وشرط المؤاجر: أن على المستأجر ردها بعد انقضاء الإجارة، فإن قلنا: يلزمه الرد من غير شرط.. كان هذا الشرط تأكيدًا، وإن قلنا: لا يلزمه الرد.. ففيه وجهان:
الأول: قال القاضي أبو الطيب في " المجرد ": يلزمه الرد؛ لأنه دخل في العقد على ذلك.
والثاني: قال ابن الصباغ: تبطل الإجارة؛ لأنه شرط ينافي مقتضى الإجارة.

.[مسألة: هيئة سكنى الدار]

إذا استأجر دارًا للسكنى.. فليس من شرطه أن يفسر السكنى؛ لأنه لا يمكن ضبطها بالوصف.
فعلى هذا: له أن يسكنها بنفسه وبغيره، وله أن يترك فيها الأمتعة التي لا تدق سقوفها، ولا يترك فيها السرجين؛ لأنه يفسدها.
وهل له أن يطرح فيها ما يسرع إليه الفساد؟ فيه وجهان:
أحدهما: ليس له ذلك؛ لأن الفأر ينقب الحائط لأجله.
والثاني: له ذلك؛ لأن ذلك متعارف في السكنى.
ولا يسكنها الحدادين والقصارين؛ لأن ذلك يوهن الجدران فيها.
وإن استأجر دارًا ليسكنها وحده، فتزوج.. قال أبو حنيفة وصاحباه: (فله أن يسكنها معه).
وقال أبو ثور: (ليس له أن يسكنها معه). قال الصيمري: وهو القياس.

.[فرع: استئجار القميص]

وإن استأجر قميصًا ليلبسه.. فله أن يلبسه ليلًا ونهارا إذا كان مستيقظًا، وإن أراد أن ينام فيه.. نظرت:
فإن كان ليلًا.. لم يجز؛ لأن ذلك غير متعارف.
وإن كان نهارًا.. قال الصيمري: فإن كان ساعة أو ساعتين.. جاز؛ لأن ذلك متعارف، وإن نام فيه أكثر النهار.. لم يجز؛ لأن ذلك غير متعارف. وليس له أن يتزر به؛ لأن ذلك غير متعارف في لبس القميص، وهل له أن يرتدي به؟ فيه وجهان:
أحدهما: ليس له ذلك، كما قلنا في الاتزار به.
والثاني: له ذلك؛ لأنه أخف من اللبس.
وإن استأجره ليلبسه ثلاثة أيام ولم يذكر الليالي.. فهل تدخل الليالي؟ فيه وجهان، حكاهما الطبري في "العدة"، الأصح: تدخل.
وإن استأجره يومًا كاملًا.. فوقته من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. فإن قال: يومًا، وأطلق.. قال الصيمري: كان ذلك من وقته إلى مثله من الغد.
وإن استأجره نهار يوم.. فوجهان، حكاهما الصيمري:
أحدهما: من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
والثاني: من طلوع الشمس إلى غروبها.

.[فرع: اشتراط النزول في الطريق]

وإن اكترى ظهرًا ليركبه إلى بلد، فإن شرط المكري: أنه ينزل للرواح عن الدابة، أو شرط المكتري: أنه لا ينزل للرواح عنها.. حملا على ما شرطا، وإن أطلقا ذلك وقد جرت عادة الناس في النزول عن الدواب في تلك الطريق للرواح عليها، فإن كان الراكب مريضًا، أو امرأة، أو شيخًا زمنًا.. لم يلزمه النزول، وإن كان رجلًا صحيحًا.. ففيه وجهان:
أحدهما: يلزمه النزول؛ لأن العرف قد جرى بذلك، فصار كالمشروط.
والثاني: لا يلزمه؛ لأنه عقد الإجارة على جميع المسافة، وفي إيجاب النزول إخلال ببعض ما عقد عليه، فلم يجب.

.[فرع: استئجار مركب مسافة معينة]

وإن استأجر ظهرًا ليركبه إلى مكة.. لم يكن له أن يحج عليه؛ لأن ذلك أكثر، وإن استأجره ليحج عليه.. فله أن يركبه من مكة إلى عرفات، ومن عرفة إلى المزدلفة، ثم إلى منى، ثم إلى مكة للطواف والسعي، وله أن يطوف عليه ويسعى، وهل له أن يركبه من مكة إلى منى؟ فيه وجهان:
أحدهما: له ذلك؛ لأنه من تمام الحج.
والثاني: ليس له ذلك؛ لأنه قد حل من الإحرام.

.[مسألة: استئجار مركب لأجل نقل بضاعة]

وإن اكترى ظهرًا ليحمل عليه أرطالًا من الزاد إلى بلد، فإن سرق الزاد، أو تلف بغير الأكل.. فله إبداله، وإن نقص الزاد بالأكل المعتاد.. فهل له إبداله؟ فيه قولان:
أحدهما: له إبداله، كما لو اكترى ظهرًا ليحمل عليه ثيابًا إلى بلد، فباع في الطريق بعضها.. فله أن يبدل مكان ما باع غيرها، ولأنه لا خلاف أنه إذا اكتراه ليحمل له الماء.. فإن له أن يبدل مكان ما فني منه، فكذلك الزاد.
والثاني: ليس له إبداله؛ لأن العادة جرت أن الزاد لا يبقى في جميع مسافة الطريق، وإنما ينقص بالأكل، فحمل ذلك على العرف.
وقال أبو إسحاق: القولان إذا كان الزاد من أول الطريق إلى آخره بسعر واحد، لا يزيد ولا ينقص، فأما إذا كان الزاد في موضع من الطريق غاليًا، وفي موضع رخيصًا.. فله أن يبدله مكان ما أكله، قولًا واحدًا؛ لأن له غرضًا إذا اختلف سعره أن لا يشتري من موضع واحد.

.[مسألة: لا يمنع من ضرب الدابة المعتاد]

وإن استأجر دابة.. فله أن يضربها الضرب المعتاد للمشي؛ لما روي عن جابر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اشترى منه جملًا، وحمله عليه إلى المدينة، وكان يضربه بالعصا».
وله أن يكبحها باللجام، وهو: أن يجبذ لجامها بالعنان حتى يلوي رأسها، ويرده إليه؛ لأن ذلك متعارف.

.[مسألة: استأجره لمنفعة فله أن يفوت بعضها]

وإن استأجر عينًا لمنفعة معينة.. فله أن يستوفي تلك المنفعة، أو مثلها، أو دونها، مثل: أن يستأجر دابة ليركبها في طريق إلى بلد، فله أن يركبها في مثل تلك الطريق في الأمن والسهولة والحزونة القدر، وكذلك: لو استأجرها ليركبها في طريق حزن.. فله أن يركبها في طريق سهل لا يزيد عليه في القدر، وكذلك: لو استأجرها ليركبها بنفسه.. فله أن يركبها من هو في مثل حاله في الطول والقصر والهزال والسمن، وليس له أن يستوفي أكثر من المنفعة التي استأجر عليها، كما قلنا فيمن استأجر أرضًا للغراس.. فله أن يزرعها، ولو استأجرها للزرع.. لم يغرس فيها.
ولو اكترى دابة بعينها، فأراد المكري أن يعطيه غيرها.. لم يلزم المكتري قبولها. والفرق بينهما: أن المعقود عليه منفعة الدابة، فلم يكن له أن يدفع إليه غيرها، كما لو باع منه دابة، وأراد أن يعطيه غيرها. وليس كذلك الراكب، فإنه هو المستوفي، فجاز أن يستوفي بنفسه وبغيره، كما لو كان له دين على غيره.. فإن له أن يستوفيه بنفسه، وله أن يوكل من يستوفيه.

.[فرع: ما اكتراه له لا يغيره]

فإن اكترى ظهرًا ليحمل عليه القطن. لم يكن له أن يحمل عليه الحديد، وإن اكتراه ليحمل عليه الحديد.. لم يكن له أن يحمل عليه القطن؛ لأن في كل واحد منهما ضررًا على الظهر، وارتفاقًا له ليس في الآخر مثله.
وإن اكتراه ليركبه بالسرج.. لم يركبه من غير سرج؛ لأنه أضر به، وإن اكتراه ليركبه من غير سرج. لم يكن له أن يركبه بسرج؛ لأنه أثقل عليه.
وإن اكتراه ليركبه.. لم يحمل عليه المتاع، وإن اكتراه ليحمل عليه المتاع.. لم يكن له أن يركبه؛ لأنهما لا يتساويان.

.[فرع: الاستئجار للسكن والإسكان]

وإن أكراه دارًا ليسكنها ويسكن بها من شاء.. فله أن يسكنها القصارين، والحدادين، وأضر من سكن؛ لأنه مأذون فيه.
وإن قال: على أن تسكنها بنفسك، أو أطلق.. فله أن يسكنها بنفسه، وله أن يسكنها من هو في مثل حاله، ولا يسكنها من هو أضر منه، كالحدادين، والقصارين.
وإن أجره إياها على أن يسكنها بنفسه، ولا يسكنها مثله، ولا من هو دونه، أو أجره بهيمة ليركبها في طريق، ولا يركبها في مثله ولا دونه، ولا يركبها من هو مثله، أو دونه.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: لا تصح الإجارة؛ لأنه شرط ينافي مقتضاها.
والثاني: الإجارة صحيحة والشرط باطل؛ لأنه لا ضرر على المؤاجر بذلك، فبقيت الإجارة على مقتضاها.
والثالث: أن الإجارة جائزة، والشرط صحيح؛ لأن المستأجر لم يملك المنفعة إلا من جهة المؤاجر، فلم يملك غير ما ملكه إياه.

.[مسألة: المستأجر يؤجر المؤجر وغيره]

إذا استأجر عينًا وقبضها.. فله أن يؤاجرها من المؤاجر، ومن غيره.
وقال أبو حنيفة: (لا يجوز أن يؤاجرها من المؤاجر).
دليلنا: أن كل ما جاز العقد عليه مع غير العاقد.. جاز مع العاقد، كما لو اشترى عينًا وقبضها. ولأن على قول من قال من أصحابنا: عقد الإجارة وقع على العين، وقد قبض العين، وعلى قول من قال: إنها وقعت على المنفعة، فإن المنفعة قد صارت في حكم المقبوض. ولأنه قد أمكنه استيفاؤها، فصار كما لو اشترى عينًا فقبضها، وإن كان لم يقبضها.
فإن أجرها من غير المكري.. فهل يصح؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأن المنفعة في محلها تحل محل الأعيان، بدليل: أنها تضمن بالعقد الصحيح بالمسمى، وبالفاسد بالمثل، كبيع الأعيان، وقد ثبت أنه لو ابتاع عينًا لم يجز له أن يبيعها قبل أن يقبضها، فكذلك هذا مثله.
والثاني: يجوز، وهو قول أبي العباس؛ لأن قبض العين في الإجارة لا تأثير له في قبض المنفعة، ألا ترى أنه إذا استأجر دارًا، فقبضها، وانهدمت قبل استيفاء المنفعة.. انفسخت الإجارة، كما لو انهدمت قبل القبض؟ والأول أصح.
وإن أجرها المستأجر من المؤاجر قبل القبض، فإن قلنا: يصح أن يؤاجرها من غيره.. فمنه أولى أن يصح، وإن قلنا: لا يصح أن يؤاجرها من غير المؤاجر.. فهل يصح أن يؤاجرها من المؤاجر؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يصح؛ لما ذكرناه في الأجنبي.
والثاني: يصح؛ لأنها في قبضته. والأول أصح؛ لأن هذا يبطل بمن اشترى عينًا وباعها من بائعها قبل القبض.
إذا ثبت هذا: فيجوز أن يؤاجرها بمثل ما استأجرها به، وبأقل منه، وبأكثر منه.
وقال أبو حنيفة: (لا يجوز أن يؤاجرها بأكثر منه إلا أن يكون قد أحدث فيها عمارة).
دليلنا: أن كل ما جاز أن يؤاجره بمثل ما استأجره.. جاز أن يؤاجره بأكثر منه، كما لو أحدث فيها عمارة.

.[مسألة: زرع ما لا يستحصد قبل مضي مدة الإجارة]

إذا اكترى أرضًا مدة ليزرعها، وأطلق.. فقد مضى في ذلك وجهان، الأصح: أن الإجارة صحيحة.
إذا ثبت هذا: فإن أراد المستأجر أن يزرع فيها زرعًا لا يستحصد في مثل تلك المدة.. فهل للمكري أن يمنعه؟ فيه وجهان:
الأول: قال الشيخ أبو إسحاق: لا يمنع منه؛ لأنه يستحق الزراعة إلى أن تنقضي المدة، فلا يجوز منعه منه قبل انقضائها، ولأنه لا خلاف أنه إذا سبق وزرع.. لم يجبر على قلعه قبل انقضاء المدة، فلم يمنع من زراعته.
والثاني: قال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: يمنع من زراعته؛ لأنه متعد بذلك؛ لأنه لا يستحق منفعة الأرض أكثر من المدة المقدرة، وإذا أراد أن يزرع ما لا يستحصد فيها.. فربما رأى حاكم تبقية الزرع إلى أن يحصد، فيؤدي ذلك إلى الضرر بصاحب الأرض.
فإن بادر وزرع، أو قلنا بالأول: إنه لا يمنع.. لم يكن لصاحب الأرض مطالبته بقلعه قبل انقضاء المدة؛ لأنه ملك منفعة الأرض فيها، فإذا انقضت المدة.. فله أن يطالبه بنقله؛ لأنه لا يفيد تقدير الإجارة بالمدة إلا ذلك، فإن اتفقا على تركه بعارية أو أجرة.. جاز؛ لأن الحق لهما.